الاثنين، 12 سبتمبر 2011

ما يجرح الثورة يغضب ثوارها، وما يغضبهم يدفعهم لحمل الشواكيش


لا تجرحـــوا الثورة أكثر من ذلك
 وإلا انتظــروا شواكيشهــا 
وتذكروا أنه فى يوم (25 ) فى شهر (يناير) حدثت ثورة.


حزنت كثيرا، واستشعرت الحرج، بل وخجلت من نفسى وأنا أطالع صورة ذلك الشاب المجند عماد عبدالملاك، الذى تحمل ملامحه طيبة أهل بلدته الأقصر، والذى فارق الحياة أمس الأول فى مستشفى كوبرى القبة مستشهدا على أيدى الصهيانة داخل الحدود المصرية. على أثر إصابته أثناء الغارة الإسرائيلية التى دفع ثمنها حتى الآن ستة من ضباط وجنود مصر. حزنت لأنه لم يكتب الله لى أن أحمل شاكوشا يوم جمعة (تصحيح المسار) وأكسر به ولو سنتيمتر واحد من ذلك الجدار المشئوم الذى بنى لحماية السفارة الإسرائيلية. الجدار الذى دفع المصريون ثمن خرساناته من جيوبهم. وبناه عمال مصريون يتمنون فى قرارة أنفسهم لو هدم على رأس من يحميهم هذا الجدار.
شيده العمال فى نفس الوقت الذى كان هذا المجند الأقصرى يعانى من شدة الألم فى المستشفى نتيجة انفجار فى بطنه من جراء طلقة إسرائيلية جبانة.
استشعرت الحرج من أهل الأقصر الذين سيشيعون جنازة ابنهم دون أن أستطيع أن اقدم لهم واجب العزاء، مثلما قدمه هؤلاء الشباب الذين التحمت أياديهم معا دون أن يعرف الواحد منهم الآخر فى الإمساك بذلك العمود الحديدى الذى نجحوا به فى تكسير الجدار.
خجلت من نفسى أننى أضعت لحظة كنت أستطيع بها أن أضع صورتى ضمن الصور الرائعة التى احتفظ بها الآن فى أرشيفى لهؤلاء الذين لم تحتمل ضمائرهم أن يكون هناك جدار يحمى قتلة أولادنا. ولكنت كتبت على الصورة (كنت معهم). حزنت، واستشعرت الحرج، وخجلت من نفسى من أننى لم أكن فى ذلك النهار رقما إضافيا للآلاف من المصريين الذين مازال الدم يجرى فى عروقهم ولم يتحول إلى ماء مثل غيرهم. وبالرغم من أننى لم أكن أنوى، ولا أستطيع بالطبع أن أتسلق حوائط السفارة الصهيونية لأقتلع ذلك العلم وأمزقه أو أحرقه.
أو حتى ألقى به فى النيل ليكون ذلك النهر شاهدا على أن المصريين استطاعوا فعل ما لم يستطع حكام هذا البلد فعله. وهو طرد السفير الإسرائيلى فارا كالجرذان مستقلا طائرة إسرائيلية، آتت على عجل لتقله بتى شيرت دون أن يسعفه الوقت لارتداء بدلته الرسمية. بالرغم من أننى لم أكن أنوى التسلق على جدارن السفارة لإنزال العلم، ولكنى كنت أريد أن أزغرد مثل تلك الزغردوة التى ملأت المكان من سيدة كانت تستقل أتوبيسا مزدحما بالبشر يمر على كوبرى الجامعة، وهى ترى العلم الإسرائيلى وهو يلقى به على الأرض. وكنت أريد أن أطلق شمروخا فى الهواء مثل واحد من الألتراس احتفالا بتمزيق العلم.
ولكنى لم أفعل هذا ولا ذاك لأننى كنت أنشغل بالحديث مع بعض الذين مروا من أمام المشهد بسياراتهم، ممن يلبسون ثوب العقلاء وهالهم ما حدث، واستنكروا فعلة هؤلاء الغاضبين. وتكلموا كثيرا عن الحرج الدولى والأعراف والقوانين التى تحكم علاقات الحكومات فيما يخص حماية السفارات. دون أن ينطق أو يتذكر واحد منهم أن المجند عماد ورفاقه استشهدوا مع عدم مراعاة الأعراف الدولية، بل وبإصرار وعناد من الإسرائيليين على عدم حتى الاعتذار.
ولم يسأل واحد من هؤلاء العقلاء نفسه هل هدم جدار خرسانى، واقتحام سفارة، وإلقاء علم دولة معادية، مغتصبة، قاتلة لأبنائنا أكثر خرقا للأعراف الدولية أم إزهاق أرواح عشرات من أولادنا على الحدود؟.
ربما لا إنزال العلم، ولا كسر الجدار سيرجع لنا أبناءنا، أو سيعيد لنا حقنا فى وضع ما نشاء من قوات مصرية فى سيناء. وطبعا لن يعيد للعرب القدس ويزيل الكيان الصهيونى. ولكنه فقط سيعيد لنا إرادة أن نغضب. لأننا كنا لا نغضب. كنا راضين ومطيعين... لا نغضب أبدا. أخرجنى هذا الحوار من مشاركة الناس فرحتهم وشعرت بأن مصر اصبحت مصريين. فى مصر (وفى نفس عام الثورة) يتحدث بعض الناس وكأنهم خلعوا من نتيجة الحائط شهرى يناير وفبراير ليأتى بعد ديسمبر شهر مارس حتى ينسوا أنه حدث ذات يوم ثورة. ثورة لن يستطيعوا أن يمحوها، لأن دم أصحابها سيذكرهم مهما مزقوا من شهور فى نتيجة حوائطهم. ومصر أخرى فيها أناس آخرون مازال الغضب يملأ صدروهم ضد كل ما يجرح وجه الثورة التى صنعوها بأيديهم، ويخشون عليها.

- يجرح الثورة أن يظل العلم الإسرائيلى يدنس نيلها. والجدار العازل يخدش كرامة أبنائها. والمحاكم العسكرية تطارد شبابها. يجرح الثورة أن يظل العمال يتهددهم كل يوم التشريد والطرد من أصحاب أعمال حصلوا على الملايين، ومازالوا يحصلون تحت دعوى زائفة هى فتح بيوت، وتشغيل عمالة.
ويجرح الثورة أن يظل المدرسون فى الشوارع قبل أيام من العام الدراسى يستجدون الحكومة حقهم المشروع فى حياة يستحقونها، لأنهم صناع الأجيال بحق. يجرح مصر أن يظل الفلاحون يعانون الأمرين من فساد للمبيدات، وارتفاع أسعار الأسمدة، وتحكم التجار فيهم ومع ذلك تكافئهم الحكومة بدعم مالى على احتكارهم. ولا تكتفى الحكومة بذلك بل تعذبهم بإقامة حفل فى عيد الفلاح يأتون إليه رغما عنهم وببدل نقدى وكأنهم يأتون بكومبارس من الفلاحين يرتدون جلاليب. ويجرح الثورة أيضا أن تظل كثير من الصفقات الفاسدة التى تم بها بيع شركات القطاع العام بتراب الفلوس، وتسببت فى تحويل الآلاف من الأيادى التى كانت عاملة إلى عاطلة وعاجزة ومهمشة، وخربت صناعات يجرحها أن تظل هذه الصفقات سارية خوفا من مغبة فتح الملفات. ويجرحها أيضا أن تظل شريحة من المتفوقين علميا من خريجى الجامعات من أولاد الفلاحين والعمال والطبقات الفقيرة محرومة من التعيين فى النيابة والقضاء، تحت شعارات زائفة من أن أبناء القضاة والمستشارين هم الأحق دون أن نعير شعار العدالة الاجتماعية الذى كان الأبرز فى الثورة أى اهتمام.
- يجرح الثورة أن يخرج بعض الشرفاء من أجهزة الرقابة مثل جهاز المحاسبات لا يطيقون الفساد من كثرة ما عانوه من الفاسدين فى العهد المخلوع، ويطالبون بقوانين مشددة ضد الفساد فيكون جزاؤهم التحويل للنيابة الإدارية للتحقيق.
- يجرح الثورة أن تظل كل أجهزة الإعلام فى يد من ساهموا بالفعل، أو بالصمت، أو هز الرأس بالموافقة على تشويه العقول، وتزييف الحقائق، ومناصرة كل أنصار النظام السابق.
- يجرح الثورة أن يظل أعوان النظام المخلوع طلقاء يؤسسون أحزابا ويطلقون فضائيات، ويعطون الدروس للناس فى التليفزيونات، ويخوضون الانتخابات بدلا من أن يخرج قانون حازم يعزلهم عن الحياة السياسية عدة سنوات، تسمح لهم بتنظيف وجوههم.
- يجرح الثورة أن الحكومة مازالت مرتبكة عاجزة على أن تحسب الحدين الأدنى والأقصى للأجور حتى تقلل الفوارق بين الموظفين من أصحاب المرتبات التى يسبقها صفران، بهؤلاء الذين تسبق الستة أصفار مرتباتهم خوفا من أن تتهم بالعدل. ما يجرح الثورة يغضب ثوارها، وما يغضبهم يدفعهم لحمل الشواكيش، وعندما يحملونها لا يوقفهم من يلبسون ثوب العقلاء. فلا تجرحوا الثورة أكثر من ذلك. وإلا انتظروا شواكيشها.
وتذكروا أنه فى يوم (25 ) فى شهر (يناير) حدثت ثورة.


ليست هناك تعليقات: